الثورة | فرسٌ وصبّار
ظلت الثورة أملًا وبشرى في الكثير من أعمال توفيق عبد العال، التي تبدو أنها تعالج مواضيع أخرى من تلك التي سبق الحديث عنها؛ ففي أعماله المستلهمة من شاطئ عكا والريف الفلسطيني لم تُخْفِ رومانسيةُ الحنينِ إلى الوطن المفقود رغبةً ملحّةً في استعادته، وكذلك فإن أعماله حول الأمومة بالعلاقة مع مجزرة تل الزعتر، وأعماله حول المرأة عامةً، انطوت على إشارات واضحة إلى معاني التمرد والاحتجاج والثورة على الواقع.
تصور لوحة "الانطلاقة" (1973)، موقف الفنان المُعلَن بصريًا تجاه قضيته وما يرتبط بها من أحداث تاريخية عاصرها؛ وهو موقف الثائر أو الداعي بصراحةٍ إلى الثورة وتجديدِ الثورة: الحصانُ الأبيض المُصوَّر بشفافية لونية في فضاء من الأزرق السماوي، ورأسه المرتفعة نحو السماء بما يوحي بالصهيل، ورشاقة الجسد ووضعيته التي تحيل إلى الاستعداد والتأهب، والسلاسل التي تقيد إحدى قدميه، بينما الأخرى تلتصق بتكوين دائري أحمر اللون وأشبه بكرة اللهب، كل هذه العناصر هي إشارات بصرية تختزل دلالات زمنية تشير إلى لحظة ما قبل الانطلاق، أو الصراخ، أو التحليق والطيران، أو الصهيل بأغنية للحرية. فحركة الرأس المرتفعة نحو السماء هي الصرخة الثورية المرتقبة، وشفافية الجسد هي المرادف للنقاء الثوري المجرّد من أية شوائب أو مطامع، فلا أهداف للثورة سوى استعادة الحقوق وتصحيح المسار. ورشاقة الجسد كذلك هي إشارة إلى الخفّة وسرعة الحركة التي يتطلبها العمل الثوري. كما يستلهم الفنان في تصويره للحصان ــ سواء في هذه اللوحة أو في أعمال أخرى موضوعها الحصان كرمزٍ للثورة ــ من صفاتِ الخيول العربية، ومن بينها صِغَر حجم الرأس، وطول العنق، وطول شعر الذيل وارتفاعه عند ملاقاة العدو، ما يجعل اللوحة تحتمل دلالات تشير إلى ثورةٍ عربيةٍ شاملة، أو إلى ترقّبٍ أو دعوةٍ أو توقّعٍ لهذه الثورة الشاملة.
أخيرًا، كثيرًا ما قام توفيق عبد العال بتوظيف نبتة الصبّار في أعماله كرمز دالٍ على الصمود والمقاومة والثورة، فمن بين مجموعة أعماله في الطبيعة الصامتة التي لم تُعرض من قبل، ويصور فيها ورودًا وأزهارًا موضوعة في مزهريّات، لوحةٌ تمثل نبتة الصبّار موضوعة في أصيص. وحضر الصبّار كذلك في الكثير من أعماله حول المكان وفي رسوماته بالحبر الصيني، وهو الرمز الذي اتخذه العديد من الفنانين الفلسطينيين لتمثيل رؤيتهم للهوية الفلسطينية بعد النكبة. إن اللوحة الوحيدة التي تركها توفيق عبد العال، التي تمثل صبارًا في أصيص، تثير الدهشة بالفعل أمام هذا التخاطر المعرفي ــ البصري بين فنانيْن من جيل ما بعد النكبة رسم كل منهما النبتة ذاتها موضوعة في أصيص.
فتح صبّار عاصم أبو شقرة الباب أمام النقّاد الإسرائيليين باتجاه محاولة أسرلة الرمز بِرَدِّهِ إلى الثقافة الإسرائيلية، ودافع نقّاد فلسطينيون في المقابل عن فلسطينية الرمز وتجذّره في الثقافة العربية، وعن دلالاته التي تختزل معاني القدرة على التحمل والصمود والبقاء رغم قسوة الظروف. في المقابل، فإن صبّار توفيق عبد العال ــ الذي صوّره في الستينيات أي هو سابق على صبّار عاصم أبو شقرة بعقديْن من الزمن ــ يرمز بلا أي شك إلى هذه المعاني التي تمثل قوة الفلسطيني وقدرته على الحفاظ على الوجود والهوية رغم التهجير والشتات من ناحية، ومحاولات أسرلة المكان والهوية من جهة ثانية. وبذلك يؤرخ عبد العال لهذا الفجر الثوري الفلسطيني عبر عنونة الهوية الفلسطينية صبّارًا قادرًا على البقاء والإثمار والتفتّح بالزهر رغم الاقتلاع من الأرض، فالهوية بذلك هي طبيعة صبّارية ليست صامتة أو ساكنة.