description of gif

النزوح

ولد توفيق عبد العال في مدينة عكا (10 اذار1938) من أب يتعاطى تجارة السمانة والحبوب (زكي عبد العال) بالمفرق والجملة ومن أم (توفيقة محمد المكحل ) ، هي ابنة تاجر انتكست تجارته في الحرب العالمية الثانية . كانت فلسطين آنذاك في مرحلة الثورة الكبرى، وكان الثوار سادة الموقف في البلاد.

البيت الذي عاش فيه في حي المجادلة ومكون من ثلاث طبقات. بيت قديم سقفه مزركش ودرجة عاجي يطل على البحر. وفي طابقه الثالث كانت السرر النحاسية العالية للنوم. عقود وشابيك قديمة وأدوات المنزل المزخرفة بالعمل اليدوي، والقرميد الأحمر على أسطح البنايات، شكلت خبرة كاملة مع الزخرف الشرقي.

في المدرسة، كان دائم الهرب باستثناء حصص الرسم والرياضة، وعلاقته بالمدرسة اتسمت بطابع عدائي. كان يهرب إلى الشاطئ الغربي من عكا، وهناك يراقب الصيادين ويحسدهم على تحررهم من مقاعد الدراسة ولوائح المدرسة. وكانت الشباك الكبيرة (الجاروفة) تستهويه وتشده، ويسمع بتأمل واستمتاع إلى الأغاني وانعكاس ظلال القوارب الحمراء على البحر الأزرق. وعندما تقام وليمة في الساحل تختلط رائحة الشواء بالقبعات الكبيرة وظلال السواري امام الشمس الغاربة. وقد احتلت هذه المشاهد حيراً كبيراً من انتاج مرحلة الستينات، وخاصة تلك التي تسمى بالمرحلة الزرقاء.

ووراء " الحناطير " يركض الطفل ويتعلق بأعمدتها وهو يمضي خلسة من أهله إلى حارة " الخمامير “. كان يقف امام مقاهي الليل حاملاً الياسمين ليبيعه إلى عشاق السهر. وبالقروش القليلة يرتب لنفسه اغرب نزهة في القطار ما بين عكا وحيفا. يقطع التذكرة وعندما يصل القطار محطته في حيفا، يكتفي بالقفز إلى الرصيف، ثم يقفز عائداً إلى عكا في نفس القطار، ودون أن يبتعد عنه، خشية ان يغادر ويتركه وحيداً. وعلى الطريق كان يبحث عن " الطاحونة"، فجده يسميه الناس بالطحان لأنه يملك الطاحونة ما بين عكا وحيفا، جده الذي قتل في معركة بئر السبع (31/10/1917) عندما اقتحم الإنجليز المدنية في الحرب العالمية الأولى وحيث أرغمه الأتراك على التنجيد. خلّف لأبيه الطاحونة. فقفز منها إلى البقالة، ونلاحظ ان الطاحونة والياسمين تسللا على العديد من لوحات توفيق عبد العال في مرحلة الستينات.

وفي مقهى " الدلالين " حيث اعتاد والده أن يأخذه معه، استمع إلى سيرة عنترة والزير وأبي زيد. ومن ذلك الجو احتفظ عبد العال بجو الحكاية والفارس ـ العملاق الذي يشبه الأساطير.

كان أبوه يواظب على حضور السينما فيشبع رغبته في رؤية أفلام طرزان والرجل الطائر في داريّ السينما الوحيدتين في المدنية آنذاك، البرج والأهلي. ولكنه استفاد من كون الرجل الذي يقف على باب سينما الأهلي هو جارهم خليل الهندي الملقب بالعاصي، فاخذ يحضر الأفلام مجاناً، ثم يذهب إلى والد خليل (أحمد الهندي) ليتأمله في بيته (جارهم) وهو يرسم على الزجاج المعشق. واحمد الهندي عكاوي هاجر إلى الهند ومكث عشرين عاما، وعاد مع زوجته الهندية فلقبوه بالهندي. وتحول الزجاج المعشق إلى جزء من الألوان وتدرجاتها عند عبد العال في مرحلة متأخرة من تجربته.

في المدينة، كان مسموحاً للأطفال بمرافقة النساء إلى حمام الباشا، الحمام الشرقي المشهور بقبابه المزينة بالزجاج المطعم، واباريقه النحاسية ودواشقه وشدروانه الدائري. وفي مرحلة متأخرة من حياته، استمدت عشرات اللوحات موضوعها من هذا الحمام، وابتعدت عنه في التفاصيل.

لقطة واحدة بقيت في ذاكرة توفيق عبد العال فسر بها العلاقة بين الصهيونية والرسم، كان المستوطنين اليهود يحملون لوحات الرسم، عندما مروا في ساحة الفاخورة قرب مدرسته، وقدموا لأطفال أقلام الحبر وألواح الشوكولاتة. وبعد قليل توالت الانفجارات المروعة، وأشلاء زميله في معقد الدراسة الملتصقة بالحائط دفعته إلى الهرب المذعور بحثاً عن المنزل، والناس يقولون الصهيونية قتلت الأطفال تغطية على عملية مداهمة سجن عكا لإخراج السجناء اليهود منه. في مدرسته بعكا، أقام له الأستاذ جورج فاخوري، مدرس الرسم، معرضاً طفلياً وعمره لا يتجاوز تسع سنوات. كانت رسوماته بالألوان المائية والطباشير الملونة، ومنها لوحة امرأة زنجية تحمل باقة ياسمين، فعرف الطلبة انها المرأة التي تسكن بجوار المدرسة.

في عام آذار 1948، توجهت أسرة توفيق عبد العال إلى لبنان، فمن ناحية كانت الأسرة الميسورة قد اعتادت على الاصطياف هناك، ومن ناحية ثانية أراد الأب إبعاد أبنائه عن أحداث الحرب في فلسطين إلى حين أن تهدأ الأجواء ومن ثم يعودوا إلى عكا. أقامت العائلة في حمانا، إحدى القرى اللبنانية من قرى قضاء بعبدا في محافظة جبل لبنان، ثم توجهت إلى صيدا هربًا من البرد، وهناك سمعت العائلة بسقوط عكا، ليبدأ توفيق عبد العال منذ ذلك التاريخ بتكوين هوية جديدة في منفاه القسريّ.

 1948- جواز سفر الوالد و ختم الخول الى المنفى

 

1948- جواز سفر الوالد و ختم الخول الى المنفى

 

عائلة عبدالعال في حمانا (لبنان)

- 1950 - عائلة عبدالعال في حمانا (لبنان)

 

 

غير أن التجربة البصرية، المتنوعة والقلقة والغنية، التي تركها الفنان توفيق عبد العال، تضع دارسي الفن التشكيلي الفلسطيني والمهتمين به ومتذوّقيه أمام تحديات عديدة تفرضها الظروف التي واجهها رواد الحركة التشكيلية الفلسطينية، باعتبارهم جزءًا من الشعب الفلسطيني الذي مرّ بعد النكبة بتجربة استثنائية هي التهجير، واللجوء، وتقطّع الأوصال، واختفاء المراكز المدينية في فلسطين، والتي كانت تشهد قبل النكبة تطورًا ثقافيًا في مختلف المجالات الإبداعية، بما فيها حقل الفن التشكيلي. تتمثل هذه التحديات في القَطْع الذي خلّفته النكبة في مسيرة تطور الحركة التشكيلية الفلسطينية، ليتم استكمال هذه المسيرة بعد عام 1948 على أيدي فنانين في الوطن والشتات، قدموا تجاربهم التشكيلية ضمن ظروف خاصة فرضتها الطبيعة الخاصة بالمكانِ وثقافةِ المكانِ الذي أقام فيه كل من هؤلاء الفنانين.

توفيق عبد العال

- 1961 – توفيق عبد العال

بالإضافة إلى ما سبق، هناك صعوبات جدّية تواجه عملية جمع الإرث البصري لروّاد الفن الفلسطيني قبل وبعد النكبة، وهو جمع ضروري لأهداف تصنيف هذا الإرث وتوثيقه ودارسته وتحليله، كما هو الحال مع أعمال توفيق عبد العال التي تعرضت للدمار أربعة مرات في أربعة أماكن؛ فالفنان الذي نشأ طفلًا في عكا واستقرّ بعد النكبة في بيروت بالقرب من مخيم برج البراجنة، مرّ بظروف عدة، استثنائية وقاسية، فعدا عن تجربة التهجير وفقْدِ الوطن وحياة اللجوء، شهد أيضًا الحروب والصراعات التي مرّ بها لبنان على مدى العقود الماضية، وتعرض هو نفسه عام 1987 لاعتداء ومحاولة إعدام على أيدي ميليشيات لبنانية، وفي حادثة الاعتداء هذه، تحطم زجاج نظارته ليصيب عينيه ما تسبب في تدمير الشبكية. هذه الحادثة التي تسببت في أن يفقد توفيق عبد العال بصره تدريجيًا فيما بعد، أسدلت الستار على ثلاثين عامًا من مسيرة الفنان التشكيلية، ليجد بعدها في الكتابة والشعر عالمًا إبداعيًا بديلًا عن الرسم والتصوير يستكمل به مسيرته الإبداعية، فكتب عشرات القصائد والخواطر والتي يمكن اعتبارها بحقّ تعبيرًا أدبيًا عن تجربة عبد العال البصرية، بل هي استمرارية لهذه التجربة بأدوات جديدة استمدّها الفنان من عالم الشعر والأدب.

أما أعماله فقد تعرضت للضرر والدمار أربع مرات؛ ففي حزيران/ يونيو عام 1982 قصف الطيران الإسرائيلي "دار الكرامة" في بيروت، وهي قاعة عرض خاصة بالاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين، وفي تلك الأثناء كان توفيق عبد العال قد أقام معرضًا في القاعة ضمّ أربعًا وعشرين لوحة من أعماله دُمِّرت بالكامل أثناء القصف. كما كان الفنان يملك مرسمًا في مستشفى عكّا الملاصق لمخيم شاتيلا، وفي أيلول/ سبتمبر عام 1982، وخلال أحداث مجزرة صبرا وشاتيلا، تعرض المستشفى للهجوم وتم الاعتداء على الأطباء وتدمير المستشفى بما فيه مرسم عبد العال الذي كان يحتوي على بعض من أعماله بالإضافة إلى أعمال غير منجزة، وكان يحتوي كذلك على أرشيفه الفني الذي يضم كتيّبات معارضه ومقالات ووثائق حول أعماله، وقد دُمِّر هذا الأرشيف بالكامل. وفي عام 1984 وأثناء الصراعات الداخلية في لبنان، داهمت قوات لبنانية مقرّ "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" وقامت بمصادرة محتوياته، ومن بينها أرشيف كامل من ملصقات الثورة التي أنجزها الفنان. وأخيرًا، وفي الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، تعرض بيت الفنان للقصف وتضرر العديد من أعماله وأرشيفه كذلك من كتيّبات ومقالات ووثائق.

تتتبّع هذه الدراسة المسيرة التشكيلية للفنان عبد العال والتي لم تكن منفصلة عن التجارب والخبرات الإنسانية التي راكمها في ظل ظروف قاسية، بدءًا من التهجير من عكا، ومرورًا بحياة اللجوء القاسية في لبنان الذي شهد العديد من الصراعات والحروب، فعلى الرغم من أن لبنان كان يشهد نهضة ثقافية استفاد منها الفنان وأغنت تجربته الثقافية ــ التشكيلية والأدبية، إلا إن الوجه الآخر للمكان كان يتمثل في مشاعر الكره والعنصرية التي كانت تتزايد تجاه الفلسطينيين في لبنان، ما أدى إلى أن يفقد الفنان بصره ويتوقف عن الرسم ويمارس الكتابة التي وجد فيها عالمًا إبداعيًا بديلًا، وذلك حتى رحيله عن الحياة عام 2002.

لتتبّع المسيرة الإنسانية ــ التشكيلية للفنان توفيق عبد العال، تبدأ الدراسة من عكّا مسقط الرأس، والمكان الذي تشكلت فيها هويته المعرفية الأولى، ثم تتعرض الدراسة بإيجاز إلى نشوء وتطور الفن التشكيلي الفلسطيني في النصف الأول في القرن العشرين، والانقطاع الذي أحدثته النكبة في مسيرة التطور تلك، لما في ذلك من أهمية لتكوين صورة شمولية عن الظروف التي تطورت فيها تجارب الفنانين الفلسطينيين بعد النكبة عامة، والظروف التي أنتجت تجربة توفيق عبد العال خاصة. ثم تنتقل الدراسة للحديث حول حياة وتجربة الفنان في لبنان، كمنفىً وكوطنٍ بديلٍ في آنٍ واحد، أما الجزء المحوري من هذه الدراسة فهو ذلك الذي يلقي الضوء على المراحل الفنية المختلفة في مسيرته، والتي تم تقسيمها بناء على المواضيع المختلفة التي تناولها عبد العال في أعماله وهي: المرحلة الزرقاء ومحورها عكّا، والمكان، والمرأة، والثورة، والصوفيّة.